مفهوم الأمن البشري في ظل التهديدات العالمية الجديدة
الكاتب العقيد الركن الياس أبو جودة دراسات عليا في العلاقات الدبلوماسية - الجامعة اللبنانية
الثلاثاء, 13 نوفمبر 2012
مع بلوغ العولمة مرحلة جديدة في صيرورتها التاريخية خلال الثمانينيات عرفت بالعولمة النيوليبرالية الغزو الأمريكي للعراقالتاتشرية الريغانية، كان لمبادئها ومعاييرها المالية والإقتصادية المستندة إلى الفلسفة الليبرالية، والقائمة على الخصخصة، وتحرير الأسواق من القيود الجمركية، وإلغاء سياسات الدعم المالي، وتحرير قطاع الخدمات، وتشجيع المنافسة، والإستثمارات الأجنبية المباشرة...، تداعيات سلبية على الطبيعة وعلى الوضع الإجتماعي والإقتصادي في الدول النامية والدول الرأسمالية على حد سواء(1). فالعولمة لم تشكِّل فرصة ذهبية للدول النامية في تخطي مشاكلها الإقتصادية والإجتماعية وتحقيق الإزدهار كما وعد مؤيدوها، بل إن السنوات كشفت عكس ذلك. فأدوات العولمة النيوليبرالية المتمثِّلة بالمؤسسات المالية والتجارية الدوليّة والشركات المتعددة الجنسية والدول الصناعية، استفادت من التطور التقني لتحقيق مصالحها المادية المرتكزة على الربح السريع، متخطيةً الحقوق الإجتماعية للإنسانية. فقد جسّدت العولمة غير العادلة الأسباب الرئيسة لبروز التحدّيات العالمية الجديدة التي عجزت الدول منفردةً عن مواجهتها والتي شكلت تهديدًا لأمن الإنسانية وطرحت مضامين جديدة للأمن البشري(2). ما هي هذه التهديدات التي أفرزتها العولمة النيوليبرالية؟ وما هو المفهوم الجديد للأمن البشري؟
المبحث الأول: التهديدات العالمية الجديدة
لقد أشارت تقارير الأمين العام للأمم المتحدة عن أعمال المنظّمة، وتقارير الوكالات الدوليّة المتخصِّصة (منظّمة الصحة العالمية، منظّمة العمل الدوليّة...)، وتقارير التنمية البشرية، والمؤتمرات الدوليّة للأمم المتحدة حول التنمية والبيئة والسكان في بداية الألفية الثالثة، إلى تحّديات القرن الحادي والعشرين الناجمة عن تداعيات مبادئ العولمة النيوليبرالية المادية، بأبعادها الشمولية الإجتماعية والإقتصادية والتكنولوجية والأمنية والسياسيّة (مسألة الديموقراطية وحقوق الإنسان) والبيئيّة والثقافيّة، والتي أدت إلى تغيير مفهوم الأمن البشري الذي لم يعد يرتكز على المفهوم العسكري فحسب بل أصبح يرتكز على مدى تأمين الحاجات الأساسية والضرورية لوجود الإنسان ( بيئة – صحة – ثقافة- إقتصاد- إجتماع).
أولا": التهديدات العالمية الجديدة (الإجتماعية، الإقتصادية والتكنولوجية، الأمنية والسياسيّة، الثقافيّة والبيئيّة)
1- التهديدات الإجتماعية: تتجلَّى في إتساع دائرة الفقر والجوع والأمية والبطالة والأوبئة والهجرة والتزايد السكاني، التي تؤدي إلى تدهور حالة البشر. طبقًا للدراسة التي وضعها برنامج الأمم المتحدة للتنمية (UNDP)، أن نصف السكان الكرة الأرضية 2.8 مليار شخص يعيشون على أقل من دولارين أميركيين يوميًا، و1.3 بليون شخص يعيشون على أقل من دولار واحد يوميًا في الدول النامية. والسبب الرئيس لذلك يعود إلى استراتيجية بعض الشركات التوسّعية والطبقة الحاكمة الفاسدة في معظم بلدان العالم الثالث، حيث تتنافس الدول النامية بشدة لاجتذاب الاستثمارات الأجنبية في حقل الإنتاج، ولم تتردَّد في تقليص الحماية الإجتماعية والحريّات النقابية. كما قبلت شروط الشركات في استخدام اليد العاملة الرخيصة لحسابها، وكثيرًا ما كانت تزيد ساعات العمل في اليوم الواحد على 14 – 16 ساعة بأجور متدنّية جدًا، ولم تكن، في الغالب، تدفع أجور الساعات الإضافية. وهذا التنامي في الفقر يؤدي إلى الحرمان المادي من دخل وصحة وتعليم، وسهولة التعرّض للمخاطر كالمرض والجوع وسوء التغذية والعنف والوفيات والإنتزاع من المدرسة(3). طبقًا للأرقام التي نشرتها المنظّمات المتخصِّصة للأمم المتحدة، بلغ عدد الوفيات العام 2003 نتيجة الفقر في الدول النامية أكثر من 60 مليون نسمة. أما حالات العجز الناتجة عن نقص في الدخل والغذاء والمياه الصالحة للشرب وعدم الحصول على الدواء فزادت عن مليار شخص. ووفق تقرير التنمية البشرية للعام 2003، فإن الدول الفقيرة تعاني نقصًا في تقديم الخدمات الصحيّة وتوفير الأدوية لنسبة كبيرة من السكان. كما أن تقليص شبكات الضمان الإجتماعي أدّى إلى خلل في نظام الرعاية الصحيّة، وساهم في إنتشار الأوبئة والأمراض لا سيما الإيدز والملاريا والسل والسارس وإنفلونزا الطيور، ما شكَّل تحدِّيًا خطيرًا لهذه الدول العاجزة عن المواجهة منفردةً(4). وتشير الإحصاءات الأخيرة لمنظّمة الصحة العالمية للعام 2004، أن عدد المتعايشين مع الإيدز والعدوى بفيروسه يراوح بين 34 و46 مليون نسمة يعيش ثلثها في إفريقيا وخمسها في آسيا. ومن المتوقع أن يتزايد هذا العدد لأن هناك ستة ملايين إنسان تقريبًا يحتاجون الآن إلى العلاج الذي لم يتلقَّاه العام 2003 إلا 400 ألف شخص تقريبًا(5). كما توفي 30 مليون شخص العام 2003 من جراء هذا المرض الأكثر فتكًا في العالم، والذي ينتشر بنسبة كبيرة في الدول النامية في إفريقيا - جنوب الصحراء الكبرى - وفي وسط شرق آسيا وجنوبه، كما أن معدل إنتشار أمراض الشلل والملاريا والسل والوفيات الناجمة منها في هذه الدول مخيف جدًا. بالإضافة إلى هذه الأمراض، ظهر مرض السارس وانتشر سريعًا في 30 دولة وخلّف حوالى 8000 إصابة و900 حالة وفاة(6). ولم يقتصر أثر هذا المرض على الناحية الصحيّة بل كان له اثرٌ قوي على اقتصاد الدول حيث انخفضت الرحلات إلى المناطق المصابة من 50 إلى 70%، كما انخفضت الحجوزات في الفنادق إلى أكثر من 60%، بينما أقفل العديد من المصانع الضخمة أبوابه بعد أن ظهر المرض بين موظفيها(7). والخطر الصحي الجديد الذي تواجهه الإنسانية اليوم وفق ما قاله المدير العام لمنظّمة الصحة العالمية الدكتور جونغ ووك لي، هو انتشار مرض انفلونزا الطيور في جميع أنحاء العالم، في البلدان الغنية منها والفقيرة على السواء، مسجِّلاً مئات الإصابات والوفيات في آسيا(Cool. يُضاف إلى التحدّي الصحي التحدّي الغذائي والمائي، وفي هذا الصدد يقول جان زيغلر، الذي كان المقرر الخاص للأمم المتحدة، حول الحق في الغذاء، "إن عدد الاشخاص الذين يعانون سوء التغذية وصل إلى 840 مليون نسمة العام 2002، يعيش منهم 34 مليونًا في بلاد الشمال المتقدّمة إقتصاديًا، والباقي في إفريقيا وآسيا حيث يموت كل سنة 15 مليون طفل من الجوع، وكل 7 ثوانٍ يقضي في مكان ما من العالم طفل دون العاشرة من العمر نتيجة الجوع(9). كما أشار المؤتمر الوزاري للمنتدى العالمي للمياه الذي عقد في آذار العام 2000، أن أكثر من مليار نسمة لا يحصل على مياه الشرب المأمونة، بينما يفتقر نصف البشرية إلى مرافق الصرف الصحي. وتتسبَّب المياه غير المأمونة وسوء الصرف الصحي في إصابة ما يقدَّر بـ 80% من مجموع الأمراض في العالم النامي. كما حثّ مؤتمر القمة على اعتماد هدف تخفيض نسبة من يعوزهم الحصول المستدام على موارد المياه المأمونة والميسورة بمقدار النصف من الآن وحتى العام 2015(10). كما أشار الأمين العام للأمم المتحدة إلى أن النقص في المياه سيشكّل تحدّيات القرن الواحد والعشرين من حيث ازدياد حاجة الشعوب إليها، وذكر أيضًا أن 2.5 مليار شخص سيعيشون في أزمة نقص حاد في المياه العذبة بحلول العام 2025، وحوالى 2.7 مليار شخص آخرين لن يحصلوا على مياه عذبة تكفي الحد الأدنى من حاجاتهم(11). وفي الوقت الذي ترفع فيه المنظّمات الدوليّة شعار الحرب ضد الفقر، وتتعَّهد تقليص عدد الفقراء تقف التوقعات حول الزيادة السكانية والبطالة والهجرة كتحدّيات أخرى، حيث تشير إلى وصول عدد سكان الأرض إلى 9 مليارات نسمة بحلول العام 2050، أي بزيادة قدرها 50%. ويفيد تقرير صندوق السكان والتنمية إلى أن 49 بلدًا من البلدان الأقل نموًا ولا سيما الفقيرة منها سوف يتضاعف عدد سكانها ثلاث مرات، وسوف تواجه صعوبات في توفير الخدمات الإجتماعية الأساسية لشعوبها. إن العامل الديموغرافي سوف يزيد من حدَّة ندرة المياه التي تواجهها الدول الجافة في آسيا والشرق الاوسط وإفريقيا، كما سيزيد من الضغوط على البيئة. وقد أوصى كل من مؤتمر الأمم المتحدة الدولي للسكان والتنمية للعام 1992 في ريو دي جانيرو، ومؤتمر الأمم المتحدة الدولي للسكان والتنمية للعام 1994 في القاهرة، بتقليل سرعة النمو السكاني كعامل أساسي لتحقيق التنمية المستدامة(12).
وقد أدّى التزايد السكاني، وضغط المنافسة العالمية، وتداعيات سياسة المؤسسات المالية الدوليّة الإصلاحية على الصعيد المالي والإقتصادي في معالجة أزمة المديونية في دول العالم الثالث، إلى زعزعة مفهوم أمن العمل والدخل وتفاقم ظاهرة البطالة. يعتمد مفهوم أمن العمل والدخل على مدى الإستقرار الذي يحقِّقه الفرد في هذين المجالين، والذي من شأنه أن ينعكس إيجابًا على النواحي الأخرى من حياة الفرد. إن ضغط المنافسة العالمية حدا بالدول وأصحاب العمل إلى إتباع سياسات توظيف أكثر مرونة(13) أدت إلى وجود أعداد كبيرة من العمال من دون عقود عمل، والتي إن وجدت فلمدة قصيرة من الزمن، وتكون أقل أمنًا إذا ما قورنت بالعقود القديمة. لذلك بدأت تختفي الوظائف التقليدية، ومن المتوقع أن تزداد وظائف "بعض الوقت"، وسيكون الإتجاه إلى العمالة الثابتة في إنخفاض. وبكلام آخر، تنتهي فكرة “lifetime job” وتغيّر اتجاهات سوق العمل في العالم. إن عدد وظائف كل الوقت (full time) أقل الآن من ثمانينيات القرن الماضي، وهناك زيادة في نصيب الوظائف غير الرسمية، والوظائف غير النظامية العرضية (casual)(14). يعتبر التوظيف من أهم دعائم الأمن البشري نظرًا إلى الإستقرار الذي يؤمنه للإنسان، والذي ينعكس إيجابًا على مختلف نواحي حياته الصحيّة، الغذائيّة، الإجتماعية، وغيرها من النواحي المهمة لحياة البشر. تشير الإحصاءات إلى أن معدل البطالة آخذ في الإرتفاع في العالم نتيجة سياسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي (سياسات التثبيت والتصحيح الهيكلي) والشركات المتعددة الجنسية. فقد رأت منظّمة العمل الدوليّة في تقريرها السنوي للعام 2004 الذي حمل عنوان "توجهات الإستخدام العالمي"، أن عدد العاطلين عن العمل وصل إلى 185.9 مليون فرد خلال العام 2003 أو نحو 6.2 % من إجمالي القوى العمالية وهي أعلى نسبة سجَّلتها المنظّمة مقارنة بـ 158.3 مليون عاطل عن العمل العام 2002. وبلغت هذه النسبة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا 12.2% وأكثر المتضررين فئة الشباب (حوالى 88.2 مليون بدون عمل)، لا سيما الفئة العمرية بين 15 و24 سنة، الذين واجهوا نسبة بطالة ساحقة وصلت إلى 14.4%. وأشار التقرير إلى أن عدد العاطلين عن العمل من الرجال بلغ 108.1 مليون فرد، ومن النساء 77.8 مليون امرأة. وقد طالت هذه البطالة الدول النامية والصناعية على حدّ سواء(15). وتعود البطالة إلى عدة أسباب أهمها: تفشي ظاهرة الإفلاس التي تصيب المشروعات الصغيرة والمتوسطة في الدول النامية غير القادرة على المنافسة في ظلّ وجود العولمة الإقتصادية وخصوصًا التحرر التجاري والإستثمارات الأجنبية المباشرة، ما يجبر هذه المشروعات على إقفال أبوابها وتسريح موظفيها. كما أن عمليات الدمج بين الشركات تدفع إدارتها الجديدة إلى إعادة النظر في هيكليتها وتخفيض عديد موظفيها لكي تستطيع الوقوف في وجه المنافسة التي أنتجتها العولمة. كما أدَّت سياسة خصخصة القطاع العام التي سارت بها الدول إلى تسريح الموظفين.
ولكن ازدياد العاطلين عن العمل يؤدي إلى زيادة عدد الفقراء، وإلى إنخفاض مستوى المعيشة ولا يخفى تأثيره السلبي على مختلف نواحي حياة البشر من صحة وغذاء وزيادة العنف وإنتشار الإجرام والإضطرابات الإجتماعية والسياسيّة ما ينعكس سلبًا على إستقرار معيشة الإنسان(16).
في المقابل، أدَّت سياسة الشركات التوسعية، بنقل تجهيزاتها وفروعها ومختبراتها ومراكز أبحاثها من الدول الصناعية (أميركا، الإتحاد الاوروبي واليابان) إلى مناطق خاصة للإنتاج حيث تكون الأجور منخفضة جدًا، ناهيك من سياسة تحرير قطاع الخدمات، إلى تفاقم البطالة في هذه الدول المتقدّمة(17). كان عدد العمال العام 1990 25 مليونًا، وأصبح العام 2001، 39 مليونًا، والعام 2004، 45 مليونًا. في بريطانيا العام 2001، كان لعامل واحد من بين ستة عمال عمل ثابت منتظم بدوام كامل. في فرنسا طاولت البطالة في آذار/مارس 2002 أكثر من 9% من السكان النشطين، وفي ألمانيا بلغ عدد العاطلين عن العمل في آذار/مارس 2002 أربعة ملايين، وتدفع 30% من المؤسسات أجورًا تقل عن المستوى المحدَّد من النقابة. في الولايات المتحدة العام 2003، ثمة من 6 إلى 8 ملايين عاطلين عن العمل. ويوجد في البلاد الصناعية أكثر من مليون شخص يعيشون تحت خط الفقر. والعام 2002، لم يكن لـ 37 مليون شخص أي مورد سوى تعويض البطالة الذي يصرف لهم، والذي يتقلّص بالتدريج مع مرور الوقت، كما تتقلَّص الضمانات الإجتماعية(18). كما أن عدم التوازن بين التزايد السكاني في الدول النامية وتطوُّر الشروط الإجتماعية والإقتصادية الصعبة التي أفرزتها العولمة كانا الدافع الرئيس إلى الهجرة بحثًا عن حياة كريمة وتحسينًا للأوضاع الإجتماعية. لقد أصبحت الهجرة ظاهرة عالمية يشهدها العديد من المجتمعات، ويتجاوز عدد المهاجرين حول العالم 150 مليون مهاجر بعد أن كان 75 مليونًا العام 1965، منهم 15 مليون مهاجر غير شرعي. ويشهد العديد من الدول الصناعية، حاليًا، إعادة النظر في سياساتها المتعلقة بالهجرة للحؤول دون إندماجهم مع بيئتهم(19). فإن ازدياد العمالة الوافدة بأعداد كبيرة من دول جنوب البحر الأبيض المتوسط إلى الدول الأوروبية والتي تدخل خلسة، بدأت تطرح مشاكل رئيسة على هذه الدول. وأصبحت الهجرة بطرق ملتوية من الأولويات في السياسة الأوروبية من أجل معالجتها، وذلك في إطار مشروع الشراكة الأوروبية المتوسطية الذي يهدف إلى تقديم حوافز اقتصادية واجتماعية من شأنها أن تحدّ من توافد المهاجرين باتجاه القارة الأوروبية. وقد أتبع معظم الدول الصناعية المتطورة الأخرى استراتيجيات مماثلة لمعالجة مشاكل الهجرة إليها كاليابان والدول الناشئة في آسيا تجاه الدول الآسيوية الأخرى، وأميركا الشمالية تجاه المكسيك ودول أميركا اللاتينية الأخرى(20). لكن مشكلة الهجرة لا تقتصر، فحسب، على مستوى العمالة الوافدة إلى الخارج، وإنما تتناول أمرًا لا يقلُّ خطورة يتمثَّل بهجرة الأدمغة والكفاءات العلمية، لا سيما من الدول النامية والفقيرة، والتي هي بأمس الحاجة إلى خبراتها وطاقاتها لتوظيفها في عملية التنمية المختلفة. وبناء على تقديرات منظّمة الهجرة العالمية، تفقد القارة الإفريقية 200 الف من عقولها سنويًا بينما تدفع في المقابل 4 مليارات دولار لاستقدام كفاءات أجنبية لسد حاجاتها إلى الموارد البشرية المتعلِّمة والمتدرِّبة(21). وفي ما يتعلق بالهجرة الداخلية وتضخُّم حجم المدن على حساب الأرياف، يذكر أحد التقارير الصادرة عن منظّمة الأمم المتحدة أن أكثر من 50% من سكان العالم سيعيشون في المدن بحلول العام 2007، بحيث سيرتفع عدد سكان المدن إلى 5 مليارات العام 2030 مقابل 3 مليارات العام 2003، في المقابل سينخفض عدد سكان الأرياف إلى 2.3 مليار نسمة العام 2030 مقابل 3 مليارات العام 2003(22). وتعمل الدول المتقدّمة والنامية على الحدّ من الهجرة من الريف إلى المدينة، وما تؤدي إليه من تمركز سكاني كبير في الأحياء الفقيرة التي تطّوق المدن الكبرى، وبالتالي يقدَّر أن 4/3 سكان المدن في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، سيعيشون في أحزمة البؤس تلك، ويتشاركون فيها الآفات والأمراض والأوبئة المستعصية وسوء التغذية وانخفاض متوسط الحياة والتردّي الثقافي، ما يجعل إمكان إندماجهم في الحياة المدينية تستغرق عدة أجيال"(23). إذا كانت مسالة البطالة والهجرة شكلت أحدى الركائز الرئيسة للتحدّيات الإجتماعية التي أفرزتها العولمة النيوليبرالية، في المقابل ما هي تداعيات العولمة على الوضع الإقتصادي والتكنولوجي؟
2- التهديدات الإقتصادية والتكنولوجية
أ- التهديدات الإقتصاديّة: إن العولمة الإقتصادية والمالية بشكل عام، في ظل استراتيجية الشركات المتعددة الجنسية ومنظّمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وسياستها، جعلت اقتصاد الدول، وبخاصة الفقيرة منها، أقل استقرارًا من خلال التحرر المالي، والتجاري، والاستثمارات الأجنبية المباشرة، والسياسات الإصلاحية لمعالجة المديونية. لقد أدَّت قواعد التجارة الدوليّة المتمثِّلة بشكل رئيس بفتح الحدود وتحرير القطاعات الصناعية والخدماتية والزراعية، أمام تدفق السلع والخدمات والأفكار من دون قيود جمركية، إلى الإضرار وأحداث الإضطراب في الصناعات المحلية والمؤسسات التجارية للدول النامية، لأن قطاعاتها ومنتجاتها الوطنية في إطار السوق المفتوحة، غالبًا ما تتصف بحجم صغير ومتوسط، ما لا يسمح لها بالمنافسة الكونية مع الصناعات الأجنبية للدول الصناعية المتطورة، أو مواجهة الإستيراد والمنتجات الرخيصة وفق المعايير الدوليّة. وبالطبع، هذا الوضع سيهدّد الوظائف وسبل عيش الناس المحليين(24). أما بالنسبة إلى استراتيجية الشركات القائمة على التحالفات والإنصهار والإستملاك عبر الوطني، من خلال الشراكة والإندماج بين الشركات العملاقة في ميدان البحث العلمي والتطوير والتكنولوجيا، ونقل فروع الإنتاج، فلقد أدَّت إلى إحتكار السوق العالمية والتمركز وعزل دور الدولة تدريجًا في التنظيم الإقتصادي والإجتماعي، كما أن الإستثمارات الأجنبية المباشرة في الدول النامية، لم تصب بمجملها في تحقيق النمو الإقتصادي والتنمية، ولكنها يمكن أن تسبب صعوبات اقتصادية خطيرة من شأنها أن تنعكس سلبا على أمنيات التنمية المرتقبة على المدى الطويل. وانطلاقا" من ذلك، لا يمكن إعتبار الإستثمارات المباشرة الأجنبية كافة مساعدة على التنمية، إذ يمكن أن يكون بعض أنواع الاستثمار غير مفيد ويمكن أن يخفي سياسة معينة في طياته من أجل تحقيق مصالح اقتصادية على حساب الإقتصاد الوطني، والدليل على ذلك، أن نظام الاستثمار العالمي قد سلب حق الدولة في الإنتقاء من بين المشاريع الإستثمارية وتنظيمها طبقًا لأهدافها وأولوياتها القومية وبخاصة في قطاع الإنتاج الصناعي الموجّه نحو التصدير، ما أعاق التنمية وعرّض الإستقرار الإقتصادي للخطر(25).
كما أدى تطبيق سياسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي الإصلاحية، المتمثلة في خطط التقشف المالي، وفتح الحدود، وعمليات الخصخصة في أكثر من 70 دولة في العالم الثالث وأوروبا الشرقية، إلى فقدان هذه الدول سيادتها الإقتصادية والرقابية والضريبية والمالية، وزعزعة نظمها الإقتصادية والإجتماعية، وذلك من خلال تزايد الركود الإقتصادي والفقر والعجز والبطالة والتضخم والتفاوت في توزيع الدخل(26). وأخيرًا كان من نتيجة سياسة تحرير الأسواق المالية والنقدية التخلِّي عن معظم الضوابط المحلية والتقليدية التي كانت تسيّر العمل المصرفي والنظم النقدية لعهود طويلة، وبروز كتل نقدية ضخمة بمليارات الدولارات توفرها البنوك وشركات التأمين وصناديق الإستثمار الدوليّة وصناديق التأمين والمعاشات غير الخاضعة للسلطة النقدية المحلية، وقد استخدمت في المضاربات بالعملات والأوراق المالية من أجل الربح السريع، وأدت إلى أزمات مالية واقتصادية في الدول النامية والناشئة حيث عجزت السلطات النقدية المحلية (البنوك المركزية) عن الدفاع عن أسعار الصرف وأسعار الفائدة وأسعار الأوراق المالية في البورصات(27).
ب- التهديدات التكنولوجية: في ظل الثورة الهائلة في تكنولوجيا الإعلام والمعلومات والإتصالات التي يشهدها العالم اليوم، أصبح الاختراع والابتكار والابداع والمعرفة أساس الثروة والنفوذ والأسلحة الرئيسة للريادة الإقتصاديّة. وأصبح التقدُّم الحاصل لا يقاس بحجم الصادرات والواردات بقدر ما يقاس بالقدرة على ملاحقة التطوُّر التقني وثورة المعلومات والإتصالات، وهو الأمر الذي أدّى إلى فرض تحدِّيات متزايدة على الدول النامية والمتقدّمة من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، وبدأت تُطرَح تساؤلات وشكوك حول إيجابية كل تطور تقني. منذ العقود الأخيرة من القرن العشرين، بدأت الدول النامية تدرك أهمية التكنولوجيا كأداة تنموية، وبخاصة التكنولوجيات الجديدة في مجال المعلومات والإتصالات التي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الاقتصاد الجديد، ولكن الفجوة الرقمية أصبحت تعكس وتفرض التقدم الحاصل في دول الشمال وتزيد من تخلّف دول الجنوب وتهميشها(28). ويشير تقرير الأمين العام للأمم المتحدة أن الاختلاف في التوزيع المتفاوت بين الدول الغنية والدول النامية في ما يتعلق بالموارد الرقمية ومعدات الكمبيوتر وبرمجياته ونطاق الترددات الخاصة بالإتصالات، واضح جدًا. فعلى سبيل المثال، في جنوب آسيا التي يمثِّل سكانها 23% من سكان العالم، هناك أقل من 1% من مستعملي الإنترنت، ولدى أفريقيا 7 وصلات إنترنت لكل مليون شخص. وفي حين أن الوصول إلى شبكة الإنترنت يستلزم خطًا هاتفيًا عاملاً، فإن 40% من الأشخاص الذين يعيشون في البلدان النامية ليس بإمكانهم الحصول على خط هاتفي. ففي بنغلادش هناك أقل من ثلاثة خطوط هاتفية لكل 1000 شخص، وفي أفغانستان تبلغ هذه النسبة أقل من 1 لكل 1000 شخص(29).
على النقيض من ذلك أشار مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) إلى أن عدد مستخدمي الإنترنت في الولايات المتحدة بلغ حوالى 142.8 مليون شخص، و 57.9 مليونًا في اليابان، وحوالى 40% من سكان فرنسا وبريطانيا(30). هذه الفجوة الرقمية تنعكس سلبًا على الدول الفقيرة على صعيد النمو الاقتصادي والإنماء الإجتماعي. ولكن في المقابل كان للثورة المعلوماتية آثار إجتماعية سيئة على مجتمعات الدول الغنية. ويكشف فرنسيس فوكوياما في كتابه "التصدّع العظيم" (The Great Disruption) أن التحوّل التكنولوجي والتطور التقني الذي يجلب معه "الهدم الخلاق"، لا يمكن إلا أن يسبب تصدعًا مماثلاً في عالم العلاقات الإجتماعية، وأشار الى "أن الولايات المتحدة الأميركية والدول المتقدّمة الأخرى قد شهدت تحولات عميقة خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، حيث تحوّلت من مجتمعات صناعية إلى مجتمعات معلوماتية احتلّت فيها المعرفة دور الإنتاج الواسع النطاق لتصبح المعرفة أساس الثروة والنفوذ والتفاعل الإجتماعي. وفي الوقت ذاته من منتصف الستينيات إلى نهاية التسعينيات من القرن الماضي، واجهت المجتمعات الغربية في معظم الدول الصناعية في العالم، تصدّعًا شاملاً في القيم الإجتماعية، ومعدلات متصاعدة في عالم الجريمة، وتفكك الروابط الأسريّة، ومعدلات هائلة في الهيكل الأسري، ومعدلات الخصوبة، إضافة الى الإنخفاض المستمر في مستويات الثقة، وقد رافق ذلك إنتصار النزعة الفردية على الجماعة(31)".
بالإضافة إلى ذلك، أدَّى التطور التقني في مجال التسلُّح إلى انحسار المنتجات الصناعية وسيطرة الإنتاج العسكري ما يشكّل تهديدًا لحياة الإنسان على الكرة الأرضية بسبب كثرة إنتشار الأسلحة التقليدية والخفيفة وأسلحة الدمار الشامل وصعوبة مراقبتها وضبطها. كما أن التطور التقني في مجال محاربة الإرهاب يشكّل تحدّيًا لحقوق الإنسان(32).
3- التهديدات الأمنية والسياسيّة
لقد شهدت العقود الأخيرة من القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، إحتضارًا في الديمقراطيّة وحقوق الإنسان، وإنتشارًا واسعًا للنزاعات المسلحة وأسلحة الدمار الشامل ونمو تيارات العنف والإرهاب والجريمة المنظّمة، والإتجار بالمخدّرات، وهي تتوزع بنسب متفاوتة في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية وأوروبا والولايات المتحدة الأميركية، وطرحت أسئلة حول مصير الأمن الجماعي. وقد أكد تقرير التوازن العسكري (1999 – 2000) الصادر عن المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية بلندن، أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تتصدَّران قائمة الدول بالنسبة إلى سوق السلاح حيث ما زالت التوترات سائدة(33). المستفيد الأول من تجارة السلاح هي الشركات المتعددة الجنسية المنتجة له وأهمها مجموعة "كاريل" النشطة جدًا في قطاع الأسلحة الثقيلة والطائرات المقاتلة والإتصالات العسكريّة. وما تزال هذه التجارة ترفد وتغذي النزاعات الدوليّة في العديد من مناطق العالم، سواء أكانت نزاعات داخلية (كما في روسيا وأزمة الشيشان وداغستان منذ العام 1995) أو حدودية (النزاع الهندي - الباكستاني على كشمير) أو إقليمية (كالصراع العربي – الإسرائيلي). ويزداد تهديد الأمن والسلم الدوليين مع إعلان الحرب على الإرهاب الذي أصبح ظاهرة عالمية ترافقت مع ظواهر العنف والجريمة المنظّمة والتي استفادت من معطيات العولمة التكنولوجية لتنظيم أساليب العمل والأهداف مع إيجاد بؤر عالمية مؤاتية في ظل تدهور الأوضاع الإجتماعية واتساع دائرة الفقر وانحدار القيم الإجتماعية والإنسانية وطغيان العولمة المادية وتفاقم النزاعات الأهلية والدوليّة، ولكن الإرهاب ليس ظاهرة لصيقة بالعالم العربي والإسلامي حصرًا، إذ انه ينتشر في أميركا اللاتينية وأوروبا وآسيا وإفريقيا منها حركة الألوية الحمراء الإيطالية، الجيش الأحمر الياباني، منظّمة الباسك الإسبانية والميليشيات الطائفية في ايرلندا والميليشيات الأميركية في أميركا الوسطى والجنوبية والمرتبطة بكارتيلات المخدّرات في كولومبيا والبرازيل(34). اذا كانت ظاهرة إنتشار الأسلحة، والجريمة المنظّمة والعنف، والإرهاب، تشكل تحديًا أمنيًا، ما هي تداعياتها على حقوق الإنسان؟
أ- حقوق الإنسان والديمقراطيّة : على الرغم من اتخاذ المجتمع العالمي خطوات واسعة على صعيد حقوق الإنسان واعتبارها جزءًا من قواعد القانون الدولي العام والإنساني - مثل اتفاقيات جنيف والبروتوكولات الإضافية، محددات الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948، العهدين الدوليين للحقوق الإقتصادية والإجتماعية والحقوق المدنيّة والسياسيّة (1966)، الإتفاقية الدوليّة للقضاء على كل أشكال التمييز العنصري (1965)، وإتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (1979)، فضلاً عن الصكوك الإقليمية لحقوق الإنسان وأجهزة الأمم المتحدة المتخصصة ولجانها ومفوضياتها في هذا المجال، وتقارير مركز جنيف ومنشورات المنظّمات غير الحكومية - ما تزال مسيرة حقوق الإنسان تصطدم بعدة انتهاكات في مطلع الألفية الجديدة في معظم القارات، آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط وأوروبا والولايات المتحدة. وتشير التقارير الموضوعية الصادرة عن لجان حقوق الإنسان في الأمم المتحدة ومنظّمة العفو الدوليّة إلى إنتهاكات إسرائيل بسبب ممارستها العنصرية ضد الشعب الفلسطيني، حيث الآلاف احتجزوا رهن الإعتقال الإداري من دون تهمة أو محاكمة بناءً على أدلة سريّة لا يسمح لهم ولا لمحاميهم بالإطلاع عليها أو الطعن فيها أمام المحاكم، ناهيك من عمليات القتل المتكرِّرة غير القانونيّة، والتدمير المتعمَّد للممتلكات المدنيّة، والإعاقة المتعمّدة للمساعدات الإنسانية، وقتل عمال الإغاثة الطبية، وفرض عمليات إغلاق وحظر تجوال شاملة ومطولة على نطاق غير مسبوق، وعزل معظم البلدات والقرى الفلسطينية بعضها عن بعض وعن المناطق المحيطة بها. وأثَّرت هذه التدابير التعميمية للعقاب الجماعي على ملايين الفلسطينيين الذين كادوا لا يستطيعون الذهاب إلى العمل أو المدرسة أو الحصول على الرعاية الصحيّة(35). كما أدت الإنتهاكات الإسرائيلية الأخيرة في فلسطين إلى ارتكاب مجازر بحق المدنيين لا سيما الأطفال منهم في قرية بيت حانون(36)، وطالت حقوق الإنسان في لبنان العامين 1996 و2006، وحيث خلص تقرير للأمم المتحدة إلى أن إسرائيل خلال عدوانها على لبنان في تموز 2006 لم تحترم التمييز بين الأهداف المدنيّة والعسكريّة، إضافة إلى قتل عشرات المدنيين اللبنانيين وغالبيتهم من الأطفال في مجزرة قانا الثانية، وانتهكت حق الغذاء عبر استهدافها البنى التحتية الغذائيّة وخزانات المياه والإنتاج الزراعي. وفي تقرير آخر أشار مقرر الأمم المتحدة الخاص للحق في الغذاء جان زيغلر الى أن إسرائيل تتحمَّل مسؤولية انتهاكات خطيرة للقانون الدولي الإنساني باستخدامها القنابل العنقودية المحظورة دوليًا وفق اتفاقيات جنيف في حرب تموز 2006 وسوف يتأثر بذلك القطاع الزراعي وقطاع صيد الأسماك لفترة طويلة من الزمن، وقد رفع زيغلر تقريره إلى مجلس حقوق الإنسان(37). كما أورد تقرير ممثل منظّمة الصحة العالمية إستخدام إسرائيل الفوسفور الأبيض الذي يؤدي إلى تلف الجهاز العصبي وإصابة المدنيين بمرض إنفصام الشخصية (38). تضاف إلى ذلك، الإنتهاكات الروسية لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني في الشيشان حيث وثقت منظّمة العفو الدوليّة وجمعية Human Rights Watch حوادث الإغتصاب والتعذيب، وسوء المعاملة، وعمليات الإعدام خارج نطاق القضاء، والإخفاء القسري والتوقيف الإداري للمدنيين، ناهيك من عدم التمييز بين الأهداف المدنيّة والعسكريّة. وكذلك لم تحترم حقوق الإنسان والحريّات العامة في الصين وكوريا الشمالية والعراق وأفغانستان وسوريا ومصر والسعودية وعدد من الدول الإفريقية واللاتينية وبخاصة المجازر وجرائم الإبادة الجماعية (السودان – إقليم دارفور) والتطهير العرقي، والتمييز العنصري، وانتهاك قواعد حماية المدنيين في أثناء الحرب (كما في الصومال والعراق)، ومصادرة حريّة الرأي والتعبير، وقمع المظاهرات العمالية والطلابية، واستخدام أساليب لا إنسانية في السجن والتعذيب (العراق سجن أبو غريب، كوبا سجن غوانتنامو)، وتنفيذ أحكام غير قضائية بالإعدام، وعمليات الإغتيال للمعارضين السياسيين لا سيّما الصحافيين، واضطهاد النساء وتراجع الحقوق الجنسية والإجتماعية والسياسيّة(39).
في هذا السياق وفي إطار الحرب الدوليّة على الإرهاب بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر، بدت هذه الحرب أكثر فعالية في الإنتقاص من المبادئ العالمية لحقوق الإنسان أكثر من فعاليتها في مواجهة الإرهاب العالمي. في غضون العام 2004، تعرَّضت الحقوق الإنسانية لعامة الناس من الرجال والنساء والأطفال للإزدراء أو لانتهاكات جسيمة في كل بقعة من بقاع العالم وبخاصة في العراق وأفغانستان. وظلت محنة ملايين النساء والفتيات في مناطق الحروب تقابل بالتجاهل والتقاعس على مستوى الحكومات المحلية والمنظّمات الدوليّة على السواء في التصدي لإنتهاكات حقوق الإنسان(40) . ففي عالم ما بعد 11 ايلول/سبتمبر لم يتحدَّث الكثير من الحكومات عن تنفيذ القانون وإقرار العدالة، بل عن الدفاع عن النفس والحرب، وهي حرب يبدو أنها ما برحت تشن خارج إطار معايير حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي(41). وحدثت إنتهاكات واسعة النطاق لحقوق الأشخاص الذين اعتقلوا كمتهمين بالانتماء إلى عضوية القاعدة او كإرهابيين. وظل أكثر من 600 شخص، وقعوا في الأسر خلال حرب أفغانستان، معتقلين في قاعدة غوانتنامو الأميركية في كوبا، من دون تهمة أو مساعدة قانونيّة. وحاول البعض استخدام الحرب على الإرهاب لإضفاء الشرعية على قمعهم للمعارضة السياسيّة وتقاعسهم عن معالجة النزاعات والمظالم الداخلية. مثلاً في الفيليبين وصفت الحكومة المجموعات الشرعية التي تنتقدها، بمن فيها بعض منظمات حقوق الإنسان بأنها "واجهات" لجماعة معارضة مسلحة. وفي ليبيريا اتهم الصحافيون وناشطو حقوق الإنسان بالانتساب إلى جماعة معارضة مسلحة وتعرضوا للتعذيب الشديد والإعتقال من دون تهمة أو محاكمة لمدة طويلة. إضافةً إلى إنتهاك حقوق الإنسان، تحتل معضلة انعدام الحريّات السياسيّة في الولايات المتحدة وأوروبا وآسيا والشرق الاوسط (الصين – والدول العربية والإسلامية...) حيّزًا مهمًا من أولويات المجتمع الدولي، حيث سنَّ البرلمان في هذه الدول قانون منع الإرهاب الذي ينص على قبول الاعترافات التي يتم الحصول عليها في حجز الشرطة كأدلة في المحاكم بالنسبة إلى الجرائم الإرهابية. وغالبا" ما تنتزع الإعترافات في حجز الشرطة تحت وطأة التعذيب، ويحظر تقديم هذه الإعترافات كأدلة بالنسبة إلى الجرائم الأخرى.
بالإضافة إلى ذلك، يعمد معظم الأنظمة الديكتاتورية والعربية إلى إطالة أمد تحكمها بشعوبها، وقمعها لجميع الحركات السياسيّة والنقابية والنضالات الإجتماعية التي تسعى إلى التغيير من أجل تداول السلطة. ولكن هناك تخوُّفات تطرح حول استغلال بعض الدول الكبرى شعار الديمقراطيّة وحقوق الإنسان لتحقيق أهدافها الإستراتيجية(42). ولكن السؤال الأساسي الذي يطرح في سياق ثورة الإتصالات والمعلومات والتطور التقني، ماذا عن التأثيرات الثقافيّة البالغة للعولمة؟
4- التهديدات الثقافيّة
يقول دومينيك ولتون في كتابه العولمة الأخرى (L`autre Mondialisation)، اذا كانت العولمة الإعلامية في سياق ثورة الإتصالات تلغي المسافات المادية فأنها قد توجِد في المقابل مسافات وحدودًا ثقافية. وعليه فإن الواقعيـة الأساسية لنهاية القرن العشرين وبداية الواحد والعشرين هي انبثـاق ما يسـمِّيه المؤلـف بالمثلث الجهنمي للهوية والثقافة والإعلام. ويشير إلى التخوف الرئيس من مفهومين نقيضين: من جهة أولى الإمبريالية الثقافيّة التي تقول بوجود ثقافة عالمية موحَّدة تكون الهيمنة فيها للقوة المهيمنة عالميًا من المنظور الإقتصادي والتقني والعالمي، ومن جهة ثانية الأصوليّة الثقافيّة التي تفترض أن العالم مؤلف من جزر ثقافية مغلقة ينعدم التواصل في ما بينها ولا تخضع لقانون التطور وتبادل التأثير والتأثر، وتلك هي حال الأصوليّات الدينية، لا سيما الإسلامية منها اليوم، كما الأرثوذكسية بالأمس، والكاثوليكية ما قبل الأمس. هذا التناقض بين المفهومين سوف يؤدي مستقبلاً اذا لم يتم احتواؤه، إلى انفجار المثلث الجهنمي(43).
هذه الثقافة الأحادية الأميركية تثير قلق المجتمع الأوروبي ومعظم الدول النامية على حدّ سواء حيث غالبًا ما يكون في استطاعتها الإعتماد على تقاليد ثقافية محافظ عليها، سواء في اللغة أو الفن أو الموسيقى أو في صيغ أخرى، أكثر غنىً وتنوعًا من التقاليد الثقافيّة في الولايات المتحدة. ومن الجلي أن عولمة الثقافة الجماهيرية من الكتب إلى الأفلام إلى التلفاز تشكل تهديدات بارزة لهذه الثقافات التقليدية(44). ومن خلال الترابط الإستراتيجي بين العاملين الثقافي والإقتصادي، تقوم الشركات الأميركية التي تبدو كأداة للأمركة والتي تمثِّل نصف مجموع الشركات عبر الوطنية، بفرض ثقافة عالمية موحَّدة، مستفيدة من تقنيات الإتصالات لتخطي الحواجز والقيود، من أجل نشر السلع الثقافيّة "حيث أضحى الكتاب والمجلة والكاسيت والفيلم والبرنامج التلفزيوني والشريط الموسيقي والغنائي وسائل تذهب كلها في اتجاه واحد" وتنفق هذه الشركات العملاقة المبالغ الطائلة من أجل الدعاية لمنتجاتها(45). وفي مواجهة هذا التحدّي الثقافي تخوض فرنسا حربًا مكشوفة ضد الغزو الثقافي الأميركي في أوروبا، والذي يشتد يومًا بعد يوم، مع تزايد القوة الإقتصادية والعسكريّة الأميركية، كما تحاول على المستوى العالمي التصدي لغزو الإنكليزية. ولما كانت اللغة تعني الثقافة التي تتضمَّن المصالح، فإن سياسة الدفاع عن اللغة تبنى على أساس الدفاع عن المصالح التي باتت مهددة من طرف ثانٍ. وفي إطار سياسة مواجهة الهيمنة الثقافيّة، أصدرت الحكومة الفرنسية تشريعًا يقضي بأن لا تزيد نسبة البرامج الأجنبية في محطات الكوابل على 30% من مجموع البرامج. كما تشجِّع هذه الحكومة إتحاداتها الإعلامية وصناعاتها الثقافيّة على بناء تكتلات إعلامية تستطيع مواجهة الإنتاج الضخم للإحتكارات الأميركية(46). وبالنسبة إلى اليابان ومناطق جنوب شرق آسيا حيث تماثل مجتمعات هذه الدول مع النمط الياباني وتقليده، تواجه بقوة الغزو الغربي، ومن أمثلة الصراع الثقافي: غالبًا ما يتم منع الفنانين الأميركيين والأوروبيين من إقامة حفلات في بلادهم بحجة الحفاظ على تقاليدهم(47).
بينما في الدول النامية وبخاصة العالم العربي، تجري عملية التأثير عن طريق الإستغلال الرمزي لنموذج الرفاه من جانب وسائل الإتصال الجماهيرية، ووسائل التكنولوجيا الإعلامية الحديثة، فعندما يقارن الرفاه بالعوز في أوساط فقيرة، تثير عملية المقارنة هذه رغبة الأفراد في الحصول على الإشباعات نفسها، وهذا تصرف إنساني وطبيعي. وعملية فرض نموذج الثقافة الكونية الغربية وبخاصة الأميركية على حساب قيم النموذج السائد والتقاليد الدينية، تؤدي إلى بروز الحركات الأصولية الإسلامية وتوليد الحقد والعنف والإرهاب للحفاظ على الهويّة الثقافيّة(48). ومن أجل معالجة التحدّيات الثقافيّة، الامبريالية الثقافيّة والأصوليات الدينية التي تشكل التهديد الرئيس للأمن العالمي في القرن الحادي والعشرين، لا بد من إرساء عولمة بديلة على أساس من التعايش بين الثقافات والهويّات الثقافيّة من منطلق المساواة والإحترام المتبادل، وعلى أساس مزدوج: "الإعتراف من جهة أولى بالتنوع الثقافي للعالم، وبالتالي بتعدد القيم والمعايير وقواعد السلوك المحددة للحياة في المجتمع أو المجتمعات المعاصرة، ومن الجهة الثانية وجود ضابط تنظيمي ديمقراطي لعناصر هذا التنوع الثقافي، بحيث تتحاور وتتدامج ويغني بعضها بعضًا بدلاً من أن تتعادى وتتحارب وتغذي الإرهاب وتتغذى به ما يعزز وجوب تطوير ثقافة حوار الحضارات بدلا من "صراع الحضارات". التعايش الثقافي هو إذًا مشروع سياسي ينطلق من الثقافة ليخرج من الثقافة، ويؤكد على الضابط الديمقراطي للتنوع الثقافي حتى لا تتحول الهويّات الثقافيّة إلى هويات قاتلة، ويكرّس حق الإختلاف، كما يعمل على تقليص المسافات الثقافيّة بالتوازي مع تقليص المسافات الجغرافية للعالم المعاصر(49)".إضافةً إلى التحدّيات الثقافيّة، ما هي أثار العولمة النيوليبرالية على البيئة؟
5- التهديدات البيئية
الآثار السلبية للعولمة النيوليبرالية لم تقتصر فحسب على طرح التحدّيات الإجتماعية التي تطال البشرية كالفقر والمجاعة والبطالة، بل تعدّته لتتحمّل المسؤولية الكبرى عن تدمير الطبيعة، وجعل البيئة في خطر. فالدول الصناعية المتقدّمة والشركات المتعددة الجنسية والطبقة الفاسدة الحاكمة في الدول النامية، هي المسبب الرئيس للتدهور البيئي في القرنين العشرين والواحد والعشرين، عصر الثورة الصناعية الثانية والتطور التقني، حيث استغلت الإمكانات التقنية والعلمية الهائلة للإفراط في إستغلال الموارد الطبيعية. وكان لأسلوب التنمية التقليدي الذي يقوم على التنامي السريع لوتيرة الإنتاج في أسرع وقت ممكن، إنعكاسات سلبية على البيئة والبشر. ومن أعظم المشكلات البيئيّة ظاهرة الإحتباس الحراري، تآكل طبقة الأوزون، ظاهرة التصحُّر، ظاهرة الإنقراض الحيواني والنباتي، ظاهرة الأخطار الحمضية المهلكة للتربة والآثار، مشكلة النفايات الصناعية المشعّة والكيماويّة وطمرها في باطن الأرض أو قعر المحيطات، تلوث التربة بسبب سوء استخدام الأسمدة والمبيدات، تلوث الهواء والمياه العذبة والجوفية ومياه البحار والمحيطات والإستهلاك المفرط لمصادر الطاقة غير المتجدِّدة (نفط، فحم حجري، غاز طبيعي...)(50).
بالنسبة إلى ظاهرة الاحتباس الحراري: يحتل موضوع تلوّث الهواء مكانة مركزية، والمعلوم أن تراكم عوادم الصناعة ودخان الآلات والمركبات والحافلات وغيرها، أدّى إلى نشوء طبقة في منتصف الغلاف الجوي للأرض تشبه بطانية كبرى من الهواء الملوَّث، وخصوصًا من إنبعاثات ثاني أوكسيد الكربون وأول أوكسيد النيتروجين تلفُّ الأرض. وهي تمنع الحرارة المنبعثة من الأرض، من التبدُّد في الهواء، فتتراكم الحرارة تحتها. ويطلق على تلك الظاهرة "أثر البيت الزجاجي" و"أثر الدفيئة" و"أثر الإحتباس الحراري" و"أثر البيت الأخضر" وغيرها...في الإشارة إلى الإرتفاع المتواصل في درجة حرارة الأرض. ومقدّر أن ترتفع درجة الحرارة في العالم بمعدل ثلاث درجات مئوية ما يهدد الآلاف من الأنواع البيولوجية ويقلِّل من خصوبة التربة والأراضي الصالحة للزراعة، إضافة إلى ذوبان ثلوج القطبين بتسارع، ما يرفع أيضًا من مستوى المياه في المحيطات فتتهدَّد بلدان بأكملها مثل بنغلادش وهولندا وأقسام من دلتا النيل وسواها بانحراف. وتعتبر الولايات المتحدة الأميركية وشركاتها ومصانعها مسؤولة عن حوالى 33% من إجمالي الإنبعاثات في العالم، وتليها الصين المسؤولة حاليًا عن حوالى نصف هذه النسبة(51). وكذلك يسهم تفاعل الكربون والنيتروجين في توليد ظاهرة الأمطار الحمضية وآثارها السلبية على التربة وتقليص الغابات الصنوبرية في شمال القارة الأوروبية، كما أن تلوث الهواء بثاني أوكسيد الكربون وغيره من السموم، وارتفاع حرارة الأرض، وتلوُّث المياه العذبة الجوفية ومياه البحار من جراء طمر النفايات الصناعية المشعَّة والكيميائية في باطن الأرض وقعر المحيطات، تشكِّل الحلقات المركزية للإضطراب البيئي والذي من نتائجه السلبية على البشر والطبيعة اختفاء الثلوج من قمم الجبال في القارة الإفريقية، وانقراض أنواع كثيرة من الكائنات التي اختلفت بيئتها بسرعة تفوق قدرتها على التأقلم، مثل الدببة القطبية والنمور الآسيوية البيضاء والدلافين الرمادية وغيرها، وانتشار الملاريا وتراجع خصوبة التربة والأراضي الصالحة للزراعة. وكذلك، بسبب التلوُّث البيئي فإن حوالى 1.1 مليار شخص في العالم يفتقرون إلى المياه النظيفة الصالحة للشرب، بينما يشرب 2.4 مليار شخص مياهًا غير صحية ويعيشون في ظروف غير صحية، ويموت حوالى 12 مليون شخص بسبب شح المياه(52).
في ما يتعلق بتآكل طبقة الأوزون: يحذّر العلماء منذ عشرات السنين من مخاطر غازات الكلوروفلوروكاربون CFC (غازات مستعملة في التبريد والتنظيف وبعض المبيدات وكذلك رصاص البنزين...) التي تؤدي إلى تآكل طبقة الأوزون وثقبها، وهذه هي الشاشة العملاقة التي تحيط بالغلاف الجوي وتحجب أشعة الشمس ما فوق البنفسجية من الإختراق. وحاليًا، يتوسَّع الثقب الناتج عن الغازات الكيميائية في هذه الطبقة إلى أكثر من 26 مليون كلم2 فوق القطب الجنوبي، وفي الوقت نفسه تتقلّص فوق القطب الشمالي حوالى 25%. ويقضي ثقب الأوزون، بسبب تسرب الأشعة ما فوق البنفسجية، على مائة ألف شخص سنويًا بمرض سرطان الجلد، ويؤثر على العيون وخلايا الرأس، ولكن أيضًا على النباتات والمحيطات حيث يصيب أعشاب البحر ويقلِّل من مفاعيلها في امتصاص ثاني أوكسيد الكربون. وتتحمّل الولايات المتحدة وبعض الدول الصناعية المسؤولية الكبرى بسبب وجود عشرات الملايين من الثلاَّجات التي تنفث غازاتها في الهواء كل عام، أضف إلى ذلك بعض بلدان العالم الثالث الصناعية الجديدة (الصين، كوريا، البرازيل، الهند) التي تنتج غازات CFC وتضعها في السوق بكمية يقدرها العلماء بين 20 - 30 الف طن. وتقدّر كميات هذه الغازات في الأسواق العالمية بحدود مليوني طن(53).
في ما يخصُّ ظاهرة التصحُّر: إن الشركات المتعددة الجنسية مسؤولة عن تدمير الغابات البكر في العالم (إفريقيا وأميركا اللاتينية)، وبخاصة تلك العاملة في مجال صناعة الخشب. بالإضافة إلى ذلك، إن التجمُّعات الزراعية الصناعية الضخمة الباحثة بدأب عن أراضٍ جديدة من أجل توسيع مساحات استثماراتها أو تكثيف نشاطها في مجال تربية الأبقار، تحرق كل سنة ألوف الهكتارات من الغابات العذراء. "ففي مدى أربعين سنة تقلصت مساحة الغابات البكر في العالم بمقدار 350 مليون هكتار، وكان ذلك نتيجة تدمير 18 بالمائة من الغابات في إفريقيا، و30 بالمائة في آسيا، و18 بالمائة في أميركا اللاتينية والكاريبي. ويقدّر ما يُدمَّر اليوم بأكثر من 3 ملايين هكتار كل سنة"(54). مع العلم، أنه في وقتنا الراهن لا تغطي الغابات الإستوائية إلا 2 بالمائة تقريبًا من مساحة الأرض، ولكنها تأوي ما يقارب 70 بالمائة من جميع الأنواع الزراعية والحيوانية. وتعتبر غابة الأمازون الرئة الخضراء للعالم بأسره، وتبيَّن أنه خلال العام 1998 وحده تمَّ القضاء على 16.838 كلم2 من الغابة، أي ما يعادل نصف مساحة بلجيكا، والتدمير يتصاعد.
وأصابت ظاهرة التصحّر كذلك مناطق عديدة في العالم، وبخاصة في سهول أفريقيا، حيث حوّلت ثلثي مساحة إفريقيا إلى أراضٍ صحراوية ومناطق جافة، وأصابت في آسيا ما يقارب 104 مليون هكتار(55).